الصناعة في مصر: قاطرة التنمية وبوابة المستقبل
بقلم: ناصر السلاموني
رئيس الاتحاد الدولي للصحافة العربية
رئيس مجلس إدارة شركة الاتحاد الدولي للاستثمار والتنمية المستدامة – بريطانيا
مقدمة تاريخية: من محمد علي إلى السيسي… رحلة الصناعة في مصر
لم تكن الصناعة في مصر وليدة اللحظة، بل هي نتاج مسيرة طويلة من البناء والكفاح، بدأت مع المشروع النهضوي الكبير الذي أطلقه محمد علي باشا في مطلع القرن التاسع عشر، حين أدرك أن القوة الاقتصادية لا تُبنى إلا على قاعدة صناعية قوية. فأنشأ مصانع الغزل والنسيج والأسلحة، وجلب الخبراء من أوروبا، وأسس نظامًا إنتاجيًا تكامليًا ربط الزراعة بالصناعة والتجارة، ليضع مصر على طريق الدولة الحديثة.
ثم شهدت مصر في النصف الأول من القرن العشرين نهضة صناعية جديدة بقيادة رجال اقتصاد وطنيين مخلصين، كان أبرزهم طلعت حرب باشا، مؤسس بنك مصر، الذي أنشأ عشرات الشركات في مجالات النسيج والطيران والتأمين والنقل والطباعة، وعبود باشا الذي أنشأ إمبراطورية صناعية في مجالات السكر والأسمنت والأسمدة. كانت تلك الحقبة ذهبية في عمر الصناعة المصرية، حيث سادت فيها روح الاعتماد على الذات، والتوسع في الإنتاج، والمنافسة في الأسواق الدولية.
ومع قيام ثورة يوليو 1952، دخلت مصر مرحلة التأميم في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، فانتقلت ملكية معظم المصانع الكبرى إلى الدولة، وكان الهدف هو تحقيق العدالة الاجتماعية وتوسيع قاعدة الإنتاج الوطني، إلا أن الإدارة المركزية والبيروقراطية أدت تدريجيًا إلى تراجع الكفاءة التشغيلية وتوقف التحديث.
وفي التسعينيات، اتجهت الدولة في عهد الرئيس حسني مبارك إلى برنامج الخصخصة وبيع المصانع العامة إلى القطاع الخاص ضمن إصلاحات اقتصادية واسعة، لكن ذلك أدى في كثير من الأحيان إلى انهيار صناعات قائمة، وتسريح آلاف العمال، وتراجع الدور الوطني للإنتاج الصناعي، خاصة في ظل غياب الرقابة الكافية على آليات البيع وإعادة الهيكلة.
ثم جاءت نقطة التحول الكبرى في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث استعادت الدولة إدراكها لدور الصناعة كقاطرة للتنمية، وبدأت نهضة صناعية جديدة أكثر عمقًا وتخطيطًا، تقوم على توطين التكنولوجيا، وتحفيز الاستثمار، وتعزيز التكامل بين التعليم الفني وسوق العمل، وتهيئة البنية التحتية اللازمة لإنشاء مدن صناعية متخصصة.
ومن هذه الخلفية التاريخية العميقة، يتضح أن الصناعة كانت وما زالت معركة الوجود المصري، ومسار السيادة والتنمية. ومن هنا نبدأ هذا التحليل لواقع الصناعة في مصر اليوم، في ضوء رؤية الدولة الطموحة نحو 2030.
مدخل: الصناعة ركيزة السيادة الوطنية
تعد الصناعة ركيزة أساسية لأي نهضة اقتصادية، فهي تُسهم في تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وتوليد فرص العمل، ورفع قيمة الناتج المحلي. ومن هنا، فإن النهوض بالصناعة في مصر ليس خيارًا تنمويًا فحسب، بل هو مسار استراتيجي لتعزيز السيادة الوطنية وتحقيق التنمية المستدامة.
أهمية قطاع الصناعة للاقتصاد المصري
يُشكّل قطاع الصناعة نحو 16.7% من الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2023)، ويوفّر ملايين الوظائف المباشرة وغير المباشرة. كما يسهم في تقليص العجز التجاري، ويزيد من القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني عبر التوسع في الإنتاج والتصدير.
رؤية مصر 2030 والصناعة في قلب التحول
وضعت رؤية مصر 2030 القطاع الصناعي ضمن أولوياتها، بهدف رفع مساهمته إلى نحو 20-25% من الناتج المحلي بحلول عام 2030، وزيادة الصادرات الصناعية غير البترولية إلى 100 مليار دولار سنويًا. وتركز الرؤية على توطين التكنولوجيا، وتحسين جودة المنتج المصري، وتعزيز التكامل بين التعليم الفني وسوق العمل.
الاستراتيجية الوطنية للصناعة: محاور وأهداف
أطلقت الدولة الاستراتيجية الوطنية لتنمية الصناعة في 2022، وتشمل محاور رئيسية أبرزها:
توطين الصناعات ذات القيمة المضافة العالية.
تحفيز الاستثمار الخاص عبر "الرخصة الذهبية".
دمج التحول الرقمي والذكاء الصناعي في خطوط الإنتاج.
دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة بنسبة تمويل تتجاوز 120 مليار جنيه.
تعزيز الشراكة مع كيانات عالمية لنقل التكنولوجيا.
الرخصة الذهبية وتحفيز بيئة الاستثمار
من أبرز المبادرات الحكومية إصدار الرخصة الذهبية التي تختصر المسار البيروقراطي الطويل، حيث تُمنح التراخيص من جهة واحدة خلال 20 يوم عمل فقط. وقد استفاد منها أكثر من 20 مشروعًا صناعيًا كبيرًا حتى نهاية 2024، مما يعكس جاذبية المناخ الاستثماري المصري.
هيئة التنمية الصناعية: بوابة المستثمر الصناعي
تقوم الهيئة بدور فعّال في تخصيص الأراضي الصناعية، وتقديم دراسات الجدوى، وتوفير البيانات، وتسهيل إصدار التراخيص. وقد ساهمت في طرح 17 مجمعًا صناعيًا منذ عام 2020 في محافظات الصعيد والدلتا، ما يعزز التنمية الإقليمية المتوازنة.
المجمعات الصناعية: دعم للمشروعات الصغيرة والمتوسطة
توفر الدولة من خلال المجمعات الصناعية وحدات جاهزة بالتراخيص، وبتمويل منخفض الفائدة، حيث تم تخصيص أكثر من 5 آلاف وحدة صناعية حتى الآن، ضمن مبادرة "مصنعك جاهز بالتراخيص"، وتم إنشاء مجمعات في مناطق مثل السادات، الغردقة، والمنيا.
خطط الدولة لزيادة الصادرات
من أبرز المبادرات:
برنامج رد الأعباء التصديرية بقيمة 6 مليارات جنيه سنويًا.
إطلاق البوابة الإلكترونية للصادرات المصرية.
افتتاح مكاتب تجارية جديدة في أفريقيا وآسيا.
دعم مشاركة الشركات المصرية في أكثر من 50 معرضًا دوليًا سنويًا.
توطين الصناعات الاستراتيجية
تسعى مصر لتوطين صناعات حيوية أبرزها:
السيارات الكهربائية بالشراكة مع شركات صينية وألمانية.
الرقائق الإلكترونية بالتعاون مع كوريا الجنوبية.
الهيدروجين الأخضر من خلال مشروعات بدأت بالفعل في منطقة السخنة، وقد جذبت استثمارات أولية تتجاوز 10 مليارات دولار.
المدن الصناعية الجديدة: فرص واعدة
من أبرز المشروعات:
مدينة الروبيكي للجلود
مدينة دمياط للأثاث
المنطقة الاقتصادية لقناة السويس
العلمين الصناعية
هذه المدن توفر بنية تحتية متقدمة، ومساحات شاسعة للصناعات التصديرية، وتُسهم في جذب استثمارات محلية وأجنبية.
التحول الرقمي والصناعة الخضراء
تُعد الثورة الصناعية الرابعة فرصة ذهبية لمصر. ويجري دعم التحول الرقمي من خلال برامج مثل "مصنعك ذكي"، وربط خطوط الإنتاج بإنترنت الأشياء. أما الصناعات الخضراء، فبدأت الدولة تشجعها منذ 2021، ووضعت خطة لإنتاج 50% من الطاقة الصناعية من مصادر نظيفة بحلول 2035.
التعليم الفني: رافد للعمالة الصناعية المؤهلة
شهد قطاع التعليم الفني تطورًا كبيرًا مع افتتاح أكثر من 40 مدرسة تكنولوجيا تطبيقية بالشراكة مع القطاع الخاص، بما يشمل مجالات مثل الإلكترونيات، الميكانيكا، والطاقة المتجددة، مما يُعد رافدًا هامًا للعمالة المؤهلة للصناعة الوطنية.
مستقبل الصناعة في مصر
التحولات الهيكلية الجارية تُشير إلى أن مصر تسير في طريق التحول إلى دولة صناعية واعدة، خاصة مع التوسع في الصناعات التصديرية، والشراكات الدولية، وتهيئة البيئة التشريعية. وقد يُصبح قطاع الصناعة هو الأكبر في مساهمته بالناتج المحلي بحلول 2030، إذا ما استمرت وتيرة التطوير بهذا الشكل الطموح.
خاتمة: السيادة تبدأ من المصانع
إذا كانت الزراعة غذاءً، فإن الصناعة بقاءٌ وسيادة. وما لم يتحول الاقتصاد المصري إلى اقتصاد إنتاجي صناعي متكامل، سيبقى رهينًا لتقلبات الأسواق والعملة. إن مستقبل مصر يمر عبر أبواب مصانعها، ومع كل مصنع جديد، تترسّخ دعائم القوة والتنمية والاستقلال...
تعليقات
إرسال تعليق