قصة حافة القمر

 بقلم جيهان سيد
منذ كنتُ صغيرًا وأنا أرى ذاك الجسم الكروي الأبيض يتسلل ورائي ويتربص بخطواتي، بل لا يستحي في مواصلة مراقبتي في جميع الليالي. ذات يوم كنت أمشي مع والدي، فنظرتُ لأعلى برهة، فوجدته، ثم قطعنا مئات الأميال سيرًا لأتفاجأ أنه لا زال يسير فوقي! ماذا يريد مني؟ هل يريد اختطافي! نعم هو كذلك، عليّ أن أتشبّث برقبة والدي حتى لا يأخذني هذا المخلوق ويرحل بي بعيدًا...

عندها عنفني أبي بشدة، فكيف لي أن أقفز على رقبة أبي بهذا الشكل السريع! لم يفهم والدي حينها شدة خوفي من اختطافي وإبعادي عنه! فحين لجأتُ إليه، كان الخذلان هو الرد.

التحقتُ بالمدرسة ودرستُ مادة العلوم، وحينها وجدتُ عدوي يلتصق بغلاف الكتاب المدرسي! ها هو ذاك ثانيةً، يظهر لي في الصباح مجسّدًا في صورة! الوضع غير مطمئن! اعتدتُ ظهوره ليلًا فقط... بدأت المعلمة في شرح درس اليوم، ألا وهو المجموعة الشمسية، حينها ظلت تقصّ علينا كلامًا لا يستوعبه عقلٌ: كيف أننا نعيش على كوكب! بل ويوجد كواكب أخرى، وأعتقد أنني سمعتها تقول إن هناك مجرّة، بل ومجرّات عديدة. لم أفهم شيئًا حينها، سوى أن عدوي يُدعى القمر، ويوجد منه العديد في كواكب أخرى، وأنه يستمد ضوءه من نجم الشمس! كيف لهذه الدائرة التي تشع كل ذاك الضوء أن تكون معتمة!! بل وأصرت معلمتي حينها أنه مليء بالصخور! كيف يمكن حدوث ذلك وهو يظهر لي بشكل جمالي مكتمل! أيمكن لشيء أن يتصنّع لهذه الدرجة!؟

بعدها كبرتُ، ولكن لغز القمر ما زال يقتحم عقلي، بل وينجب آلاف الأسئلة الجديدة كل يوم...

لم يقتصر الموضوع كونه أن طفلًا وجد شيئًا غامضًا يراقبه، وعلم حقيقته فيما بعد! بل سيطر القمر على عقلي، وأقسمتُ أن أجد إجابة لكل سؤال طُرح...

اليوم أتممتُ عامي العشرين، وقررت أن أخوض التجربة وأكتشف القمر عن قُرب. فقد مرّ الكثير من الوقت وأنا أفكر في الوسيلة، وها أنا وصلتُ لها بعد قراءة العديد والعديد عنه...

صعدتُ أعلى البناية، ووقفت على السطح، وصوّبت نظري تجاه هذا المخلوق الغامض، ثم جلستُ مسترخيـًا، وأغمضتُ عيني وكنت أحدث نفسي: جميعـنا بداخلـه قمـر، فمن حيث الشكل الخارجي جميعنا نمتلك مظهرًا خارجيًا بارعًا، ولكن إذا اقترب أحدٌ منا يتعرف على حقيقة صخورنا؛ فأبي ترك لي صخرةً كبيرةً عندما خذلني، وأمي عندما وبّختني، صديقتي التي تنمّرت عليّ و.. و.. و.. جميعهم تركوا صخورًا لا تُزال! ولكن لن يكتشفها سوى من يقترب منك، جميعنا أصبحنا منطفئين ونستمد ضوءنا من توهّج شخصٍ آخر، حتى وإن لم يكن يشعر بذلك. جميعنا نخطف الأنظار من الخارج، ولكن من سيتسمّر معنا بعد معرفة الحقيقة! أننا لسنا سوى معتمين! كلٌّ منا لديه شبيه، ليس بالضرورة في نفس المكان، ولكنه موجود بالفعل. فنحن لسنا فريدين! جميعنا يعرف كيف يخطف الأنظار لديه، ولكن بعدما تُخطف، هل ستستمر؟ أم أننا مجرد لغز لمن يمتلكون حاسّة الفضول! هل يشعر آخرون بمراقبتنا لهم حتى وإن لم نفعل! جميعنا نبحث عن القمر الذي في السماء، ولم ننتبه يومًا للقمر الذي يكمن بداخلنا. أوهمتُ نفسي برحلة البحث عنه، وأهملتُ رحلة البحث عن ذاتي، كلانا لديه حافة، لكن كثيرًا منا لا يصل إليها وينشغل في فهم إشكاليات الحياة، ويتغاضى عن إشكالياته...

أخرجتُ زفيرًا طويلًا، وعاودت النظر للسماء، شعرتُ حينها أنني على حافة القمر، فلا أدري: هل أستمر، أم أكتفي بذلك القدر...؟



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أجمل التهانى القلبية للعروسين محمد وحبيبة

يعلن ائتلاف القيادة الوطنية للشباب عن تخرج الدفعة الثالثة من الصالون الثقافي

افتتاح مكتب بولاق الدكرور لفض المنازعات نقابة مستشاري التحكيم الدولي