ولا تنس نصيبك من الدنيا

 
بقلم ناصر السلاموني 
إن الله سبحانه وتعالى – وهو الرحمن الرحيم، الحكم العدل – قد جعل الدنيا دار ابتلاء وعمل، والآخرة دار حساب وجزاء، فمن أطاعه واهتدى كان له نعيم مقيم، ومن عصاه وأعرض وجد العذاب الأليم. وقد أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يحتج أحد بعدم قيام الحجة، فقال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وأوضح للإنسان طريق الخير وطريق الشر، فقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، ليختار بنفسه إما الشكر وإما الكفر.

ورغم أن الله غني عن طاعتنا، ولا تضره معصيتنا، قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]، فإنه سبحانه يحب عباده ويريد لهم المغفرة، وهو الغفور الغفار، التواب الشكور، لا يغلق باب رحمته أبدًا، بل ينادي عباده بلسان المحبة والصفح: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

هو الغفور الرحيم الذي يفرح بتوبة عبده فرحًا عظيمًا، قال رسول الله ﷺ:
«لَلَّهُ أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هي قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» [رواه مسلم].

ومن رحمة الله أنه يغفر للتائبين مهما بلغت ذنوبهم، كما في قصة قاتل المائة نفس، فقد روى أبو سعيد الخدري أن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفسًا، ثم أراد التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدلوه على عابد، فسأله: هل لي من توبة؟ فقال: لا، فقتله فأكمل به المائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدلوه على عالم، فقال له: "ومن يحول بينك وبين التوبة؟" فأرشده إلى قرية صالحين، فمات في الطريق، فغفر الله له، وأدخله الجنة [رواه البخاري ومسلم]. أليس هذا هو الغفار الذي يمحو خطايا عباده إذا أقبلوا عليه بقلوب نادمة؟

بل إن كرم الله واسع، فهو الرحمن الرحيم الذي يغفر بأبسط الأعمال حين تكون خالصة لوجهه، كما في حديث الرجل الذي سقى كلبًا، قال ﷺ:
«بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له». قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: «في كل كبدٍ رطبة أجر» [رواه البخاري ومسلم]. أليس هذا هو الشكور الذي يثيب على العمل الصغير أضعافه؟

ورغم أن الله شديد العقاب، وهو الحكم العدل، فقد حذرنا من النار وذكر أوصافها وأهوالها، كما جاء في حديث جبريل عليه السلام مع النبي ﷺ، حين وصف جهنم وأبوابها السبعة وما فيها من عذاب وسلاسل وأغلال، حتى بكى النبي ﷺ وقال: «أَوَ يدخل أحد من أمتي النار؟» فقال جبريل: «نعم، أهل الكبائر من أمتك الذين ماتوا ولم يتوبوا.» فبكى رسول الله ﷺ وبكى جبريل، وقال: «اللهم أجرنا من النار.»

وكان في الأرض أمانان من عذاب الله: وجود النبي ﷺ، والاستغفار. أما الأول فقد رُفع بوفاته، وأما الثاني فهو باقٍ، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]. لذلك، فلنكثر من قول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، فالله هو التواب الغفور الذي لا يرد من لجأ إليه.

يا من أثقلته الذنوب، اعلم أن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وأن الله إذا صدق العبد في توبته بدّل سيئاته حسنات، قال تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُو۟لَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 70]. فالله هو الغفور الرحيم، الصبور، العفوّ الذي يمهل عباده، ويسترهم، وينتظر عودتهم إليه، ويحب من يقف ببابه باكيًا نادمًا.

اللهم يا رحمن يا رحيم يا غفور يا غفار يا عفو يا تواب، تب علينا توبة نصوحًا، واغفر لنا ولآبائنا وأحبابنا، وأجرنا من النار، واملأ قلوبنا حبًا لك، وامنحنا من فيض رحمتك ما ننال به رضاك، إنك أنت الغفور الرحيم الشكور.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أجمل التهانى القلبية للعروسين محمد وحبيبة

يعلن ائتلاف القيادة الوطنية للشباب عن تخرج الدفعة الثالثة من الصالون الثقافي

افتتاح مكتب بولاق الدكرور لفض المنازعات نقابة مستشاري التحكيم الدولي